بقلم: حسن سوالمة
في سياقٍ لم يعد فيه مفهوم النصر خاضعاً لتقييمٍ موضوعيّ تحدده المعطيات الميدانية والأهداف المحققة، بل بات نتيجةً مُعلنة سلفاً لأيّ عمل مقاوم، حتى وإن كان فعلاً انتحارياً، تتكاثر صور «المقاوم» على الشاشات وتتبارى الفصائل في بيانات الصمود وقرب التمكين.
في خضم هذا، تغيب الأسئلة الجذرية التي تُشكّل جوهر أيّ مشروع تحرّري: من نقاوم؟ ولأيّ غاية؟ وهل نمتلك حقاً قرار الفعل المقاوم، أم أن مسارنا مرسومٌ من قِبل آخرين يحدّدون ثمن حياتنا وموتنا؟
لقد بات مألوفاً أن تتماهى حركات المقاومة في العالم العربي مع حساباتٍ إقليمية تتجاوزها، رافضةً أيّ تقييم نقديّ، بذريعة السؤال المضاد: "وماذا قدمت أنت؟". تُرفع راية تحرير القدس في غزة، بينما القرار الاستراتيجي مرتهنٌ لمباحثاتٍ تُجرى في طهران أو أنقرة، في مفارقةٍ تكشف عن عمق أزمة الاستقلالية.
المقاومة كهوية مغلقة
لم تعد المقاومة مشروعاً سياسياً له بداية ونهاية، بل تحوّلت إلى هوية قائمة بذاتها هي العلة والجوهر، تُبرّر استراتيجيتها بما تُنتجه من رموز وتضحيات، لا بما تُحققه من تحرّر فعلي.
الإشكالية هنا ليست أخلاقية، بل بنيوية. حين يتحوّل الكفاح المسلح إلى نمط حياة ونمط للموت، يُصبح من الصعب تصوّر مستقبل بدونه.
تُنتج الفصائل خطاباً عاطفياً متمركزاً حول الفداء والتضحية والمظلومية، لكنها تُهمل بناء رؤية سياسية قابلة للتطبيق في عالمٍ تحكمه حسابات المصالح المادية بشكل حصري، لا المثل العليا والعقائد الميتافيزيقية.
لا توجد إجابة في هذا الخطاب عن معنى الدولة التي يُفترض أن تنبثق عن المشروع التحرّري، ولا عن مفهوم العدالة الاجتماعية في هذا الكيان المنشود، أو عن شكل الحياة بعد زوال الاحتلال.
كلّ شيء يتمركز حول «المقاومة» كغاية، لا كوسيلة.
صورة «المقاوم» وطمس الإنسان
في خطاب المقاومة السائد، تغدو صورة «المقاوم» هي المركز الرمزي لكل شيء: هو البطل، هو المتحدث، هو المعنى. يُعاد تدوير صورته في نشرات الأخبار، وملصقات الشهداء، وخطب المنابر. يتجسد الوطن في هيئته، وتُحوَّل القضية إلى مرآة نضاله.
في المقابل، يُهمَّش الفلسطيني الذي لا يريد سوى أن يعيش بحرية وكرامة، وأن يُربّي أبناءه دون خوف، وأن يحلم بتمكين اقتصادي وتكنلوجي قبل التمكين الاخروي الاخير.
وحين يُستحضَر المواطن البسيط، غير المصنَّف كمقاوم وفقاً للتعريفة السائدة والمختزلة للمقاومة في الإعلام، لا يكون ذلك لإبراز معاناته أو إنسانيته، بل كحضور وظيفي لتغذية خطاب الفداء والبطولة.
يُعرض الجريح، والثكلى، والمسنّ اللاجئ، كخلفية درامية تُعزّز «مشروعية» المسار المسلح، لا كذواتٍ مستقلة لها حقوق وأحلام ورغبات.
يُختزلون إلى رموز للمعاناة، لا كمواطنين لهم صوت يجب أن يُسمع، أو رؤية يجب أن تُناقش.
وهنا تكمن المأساة: حين تُصبح آلام الناس مادةً خطابية، لا نداءً لوقف الألم، بل وسيلةً لإدامته ضمن سردية «الممانعة»، فإننا لا نكون بصدد تحرير، بل بصدد إعادة إنتاج القمع بصيغةٍ مختلفة.
مقاومة منزوعة الاستقلالية
التحرّر الحقيقي، كما أدركته تجارب التحرّر الكبرى، لا يكون فقط من المحتل، بل من آليات التبعية. ولا يمكن لحركة مقاومة أن تتحرّر وهي رهينة التمويل الخارجي، والشرعية المستعارة، والدعم المشروط.
استقلالية القرار ليست ترفاً نضالياً، بل هي شرط وجود لأيّ مشروع تحرّر حقيقي.نحن اليوم أمام مشهدٍ مشوّه: مقاومة تتحدث باسم الشعب، لكنها لا تخضع للمساءلة أمامه؛ ترفع شعارات الكرامة، بينما تُدار بآليات الولاء والطاعة.
ويُغيَّبُ السؤال عن الآليات التي أدّت إلى هذا الاختزال العسكري للنضال، وعن الشرعية التي يستند إليها هذا الحصر.
نحو خطاب مقاومة جديد
المطلوب ليس تجريد الفعل المقاوم من شرعيته، بل تحريره من الاختزال القاتل في حقيقة الامر.لا يكفي أبدا إدانة الاحتلال، ولا استعراض الصواريخ، للانتماء إلى معسكر الصواب.المطلوب هو تجاوز الرومانسية الثورية، والعدمية الدينية نحو رؤية نضالية واقعية، أخلاقية، ومستقلة.
نحتاج إلى خطابٍ جديد، يعترف بتعدّد أدوات المقاومة، ويُعيد للناس مركزية القرار، ويُحرّر الفكرة من الهيمنة الفصائلية والإقليمية.خطابٌ يرى في الإنسان الغاية، لا الوسيلة؛ في الكرامة اليومية مقاومة، وفي بناء المؤسسات مقاومة، وفي مساءلة الذات مقاومة.
سؤال أخير
هل يمكن لحركة مقاومة أن تُحرّر شعبها، وهي عاجزة عن تحرير نفسها من ارتهاناتها الاديولوجية ؟وهل نجرؤ أن نسأل: من يُحرّر من، حين نرى البنادق تُرفع، ولكن بأصابع تحركها إرادات خارجية؟